المخرجات الاجتماعية والثقافية للتعليم في مصر

المخرجات الاجتماعية والثقافية للتعليم في مصر

ملاحظات على المشروع القومي لإصلاح التعليم (تعليم 2.0)

إعداد

د. خالد عبد الفتاح

مقدمة إلى

المنتدى التشاوري لتعزيز المخرجات الاجتماعية والثقافية للتعليم

نحو شراكة فاعلة ومستدامة

أولا: ملامح تطور نظام التعليم في مصر

معرفة نظام التعليم في مصر هام للغاية، لأن فهم طبيعة النظام التعليمي السائد في أي دولة يعد شرطا أساسيا لنجاح أي محاولة لإصلاحه أو تجديده، والتجديد والإصلاح أصبح أمرا ضروريا بما يشهده العالم من تغيرات وتحديات في كل أنماط الحياة، مما يستدعى التغير والتطوير المستمر في التعليم لأنه يمثل الركيزة الأساسية للتقدم والنهضة لأي مجتمع متحضر أو يسعى للتحضر. ومن هذا المنطلق تعرض هذه الفقرة نبذة تاريخية عن التعليم المصري.

حتى أوائل القرن التاسع عشر لم يكن في مصر سوى نظام تعليمي تقليدي واحد متمثلا في الكتاتيب إلى جانب المساجد والمعاهد التي كانت تقدم التربية الدينية وقد قام هذا النظام بدور تاريخي هام في الحفاظ على الثقافة العربية الإسلامية ونشرها.

بدأت مسيرة التعليم الحديث في مصر في العقد الأول من القرن التاسع عشر، حيث تم الربط بين السياسات التعليمية والتنمية، ولأول مرة في التاريخ مع تولى محمد على الحكم سنة 1805 أدخل النظام التعليمي الحديث، وبدأ بإنشاء السلم التعليمي بشكل الهرم المقلوب بدء من المدارس العليا ثم باقي المراحل بشكل متتابع، وذلك لتلبية احتياجات المجتمع في تلك الفترة، ثم جاء خلفاؤه ولم يولى كل من عباس وسعيد للتعليم الاهتمام الكافي، حتى جاء الخديوي إسماعيل وشهد التعليم اهتماما كبيرا، ولكن نتيجة للاستدانة والقروض ودخول مصر في مشكلات مالية، فقد انحصرت الجهود الموجهة للتعليم حتى مجيء الاحتلال البريطاني في عهد الخديوي توفيق، والذي كان همه التعليم من أجل الوظيفة، وكان أول مشروع فكرى ظهر في مصر مشروع على مبارك(*) سنة 1867 والمسمى بلائحة رجب(**) ثم جاء دستور 1923، والذي نص على أن التعليم إلزامي للمصريين، ثم ظهور الجامعة الحكومية “الجامعة المصرية” التي كانت فكرة عام 1908 في عهد الاحتلال – وهذا يذكر للمصريين أنه لأول مرة تظهر فكرة جامعة مع عدم استقرار سياسي وتحت استعمار – فعادة الجامعات تنشا مع وجود استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي.

وأنشئت الجامعة بالفعل عام 1925 وصاحبها عدد من الجامعات، حتى جاءت ثورة 1952 والتي كان هدفها التنمية الاقتصادية والاجتماعية في مصر من خلال التعليم، وصدور دستور 1971 الذي أكد على إن التعليم حق لكل مواطن وظهور عدد من القوانين في تلك الفترة حتى التسعينيات والتي حددت أهداف التعلم في التعليم للتميز والتميز للجميع، ودخلنا الألفية الجديدة والهدف الأساسي ديمقراطية التعليم ووضع استراتيجيات جديدة لإصلاح المنظومة التعليمية ككل، حتى جاءت ثورة 25 يناير 2011 والتي كانت ثورة على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومنها أيضا ثورة على إصلاح التعليم وتخفيف العبء على كاهل الأسرة المصرية.

في إطار هذه المسيرة لنظام التعليم في مصر، فقد شهد موجات من التطور والإصلاح، ودائما ما تقف موضوعات إصلاح التعليم على أولويات الأجندات السياسية، منها على سبيل المثال أن إصلاح التعليم كان على أولوية اهتمام لجنة السياسات بالحزب الوطني الديمقراطي قبل عام 2011، وأصبح على أولوية الاهتمام فيظل حكم الرئيس السيسي، وبدأ مشروع إصلاح وتطوير التعليم الحالي عام 2017، مع تولى الوزير طارق شوقي مهام الوزارة.

ثانيا: دواعي إصلاح التعليم

ووفقا للتطورات التي يشهدها العالم في كافة القطاعات، وبعد أن أصبحت المسافة بيننا وبين العالم الخارجي في ازدياد؛ نتيجة تطور المناهج التعليمية، فقد وجب علينا الاتجاه نحو التطور، وأيضا التطلع نحو المستقبل، وعند الحديث عن المستقبل، لابد أن نجد أنفسنا نتحدث عن الأطفال، لأن الأطفال هم الثروة الحقيقية التي بإمكانها الارتقاء بالبلاد لتصل إلى ما نتمناه جميعا، من رقي وازدهار يحقق ويلبى كافة مطالب شعب هذا البلد العريق، ولكى تستطيع إدراك نظام التعليم الجديد في مصر، عليك الاضطلاع على الأصول والقواعد التي بني عليها نظام التعليم في مصر.

وشدد وزير التربية والتعليم على أن أحد أكبر المشكلات في مصر هي المدارس الحكومية المجانية، وشبهها بالسواد الأعظم، وذلك لأنها تمثل 68% من مجموع المدارس في مصر، بينما تمثل المدارس الخاصة واللغات 12%، والمدارس التجريبية لغات 1%، وأيضا المدارس الدولية أقل من 1%.

كما قال الدكتور طارق شوقي أننا نستهدف تطوير التعليم في كافة المدارس الحكومية، وبشكل خاص سيكون التركيز على الذين يحصلون على جودة تعليم قليلة جدا وغير مناسبة، مؤكدا أن المشاكل كثيرة جدا سواء في الكثافة ” كثافة الطلاب في الفصول” أو البنية التحتية أو أحوال المعلمين.

ثالثا: ملامح المشروع القومي لإصلاح التعليم

يتم تطبيق المشروع القومي لتطوير التعليم في مصر، والذي يعرف باسم نظام التعليم 0.2، على صفوف رياض الأطفال والصف الأول والثاني الابتدائي، على أن يتم تطبيق نظام التقييم المعدل للمرحلة الثانوية. وذلك لعدم رضاء الدولة عن مستوى التعليم في مصر، حيث يفتقد النظام التعليمي لمهارات العصر، لأنه تم وضع قواعد نظام التعليم الحالي بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما لا يتناسب مع تطورات العصر الحالي.

وفقا لوزير التربية والتعليم أن نظام التعليم الجديد في مصر، سيشمل عدة اتجاهات، منها تغيير وتطوير الكتاب المدرسي، على أن يتم تطوير الشكل العام لكتب اللغة العربية والرياضيات واللغة الإنجليزية والتربية الدينية، كما قال الوزير أن هناك تغيير جذري في شكل الفصول وطريقة التدريس لتتناسب مع المناهج الجديدة، موضحا أن الوزارة قد استجابت لأولياء الأمور وأعدت كتاب المستوى الرفيع في اللغة الإنجليزية ”connect plus“ للصفين الأول والثاني الابتدائي للفصلين الأول والثاني، كما سيشمل التركيز على فكرة معالجة التلقين والحفظ من أجل تحقيق أكبر قدر من الاستفادة والتعلم للطلاب.

وأشار وزير التربية والتعليم إلى أن مدة العام الدراسي لابد أن تزيد في مصر، وذلك حرصا على مصلحة الطالب العليا، كي يتمكن من استيعاب المواد الدراسية، لأن مسألة تطوير التعليم في مصر ليست عابرة، ولكن هذا هو مستقبل التعليم في مصر والاستثمار الحقيقي الذي يساهم في ارتفاع شان الوطن ورفعته.

وصرح الدكتور طارق شوقي أنه من المقرر الاستثمار في إعداد المناهج التعليمية بشكل متسارع، وذلك خلال 3 سنوات بدلًا من 10 سنوات، لجميع الأعوام الدراسية لضمان امتلاك مصر لمناهج جديدة تتوافق مع رؤية مصر للتنمية المستدامة 2030، مشيرا إلى انه جارى إدخال مفاهيم جديدة في المناهج، كالمفاهيم البيئية والسياحية، إضافة إلى مفاهيم الهوية والتاريخ.

برغم الجهود المبذولة في العقود الأخيرة لتحسين جودة التعليم في مصر من خلال تبني أفضل الممارسات الدولية، لم يتحقق النجاح والنتائج المرجوة من تبني تلك الممارسات. ويمكن تعزية ذلك إلى أن تلك السياسات يتم تطبيقها دون أخذ الظروف والسياقات المحلية في الاعتبار، أو تعديل تلك السياسات الدولية بما يتوافق مع السياق المحلي. علاوة على ذلك، في معظم الأحيان يتم تبني سياسات مختلفة وتنفيذها بمعزل عن بعضها. إن تاريخ تطور قطاع التعليم في مصر يمكنه تفسير ما آلت إليه الأمور في النظام التعليمي الحالي، والذي يمكن وصفه بأنه مشوش وغير متجانس إطلاقاً. فمنذ أن جاء محمد علي، باتت كل إستراتيجية تعليمية جديدة تحاول أن تلغي مجهودات سابقتها من خلال استيراد أو فرض “أفضل” الممارسات الدولية دون النظر إلى السياقات المحلية والبيئة المُمكِنة لتطبيق تلك السياسات، مما حول الوضع إلى مأساة تعليمية.

رابعا: ملاحظات حول فلسفة إصلاح التعليم ونقل سياسات التعليم بين الدول

هناك إجماع عام في مجال التعليم المقارن على أهمية وإمكانية نقل الخبرات التعليمية بين البلدان من خلال تحديد الدروس الإيجابية والمستفادة من تجربة بلد ما(1) ولكن المفاهيم والآليات المتعلقة بنقل السياسات بين الدول ليست سهلة، بل معقدة وغير مباشرة. فعلى سبيل المثال، ينظر أحد التعريفات إلى عملية النقل على أنها عملية مستمرة تحدث في نقاط مختلفة على طول مسار متصل(2). فعلى أحد طرفي هذا المسار، يتم فرض السياسات التعليمية فرضاً (كما يحدث غالباً أثناء الحكم الاستعماري). بينما على الطرف الآخر، يتم تبني هذه السياسات طواعية (كما يحدث عند طلب المساعدات المالية أو التقنية من الوكالات الدولية). ولكن في واقع الأمر، ونظراً لتزايد تداعيات العولمة، تتم عمليات نقل السياسات بدرجات متفاوتة بين الطوعية والإجبار تبعاً للسياق والزمان والمكان(3). ومن الجدير بالذكر، أن تبني هذه السياسات يتم الترويج له باستخدام مصطلحات فنية غير سياسية مثل “تبادل المعرفة” (Knowledge Sharing) و”أفضل الممارسات” (Best Practices) و “استخدام المعايير القياسية” (Benchmarking). كما أن عدم تنفيذ سياسة معينة في بلد ما لا يعني أن نقل الأفكار لم يتم. ففي عالم تسوده العولمة، يحدث نقل السياسات ضمنياً في الخطاب السياسي كنتيجة للتفاعل بين السياقين المحلي والعالمي.

نظراً لأن نقل سياسات التعليم عملية معقدة تتضمن التفاعل بين المؤسسات والأبنية الاجتماعية المختلفة، يجب فهم هذه العملية جيداً عن طريق دراسة وفهم آليات تبني السياسة ونتائجها المتوقعة في السياقين العالمي والمحلي قبل أن يتم تبنيها أو تطبيقها. تساعد دراسة السياق العالمي (Macro-level Analysis) على فهم الاتجاهات العامة والإيدلوجيات والتغيرات البنيوية الموجودة بهدف تحديد نقاط القوة/الضعف التي قد تؤثر على السياسة. على الجانب الآخر، فالاهتمام بالسياق المحلي (Micro-level Analysis) مهم للكشف عن الجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية التي يمكن أن تؤثر على تبني السياسات التعليمية. وعليه، يعد التكامل بين تحليل السياقين ضرورياً، حيث يقدم صورة واقعية ودقيقة لعملية نقل السياسات التعليمية. ومن ثم، بينما يمكن لصناع السياسات الاعتماد على نماذج عالمية لإضفاء الشرعية على إصلاح ما أو للحصول على تمويل، فإن الوقت اللازم للانتقال من الحديث عن السياسات إلى الفعل ثم التنفيذ يلعب دوراً هاماً في نجاح تلك السياسات والممارسات المتبناة.

خامسا: ملاحظات حول تاريخ سياسات إصلاح التعليم في مصر

خصائص النظام التعليمي الحالي في مصر متباينة وغير متناسقة أو متكاملة، فهناك على سبيل المثال فجوة واضحة بين التعليم الأزهري والتعليم العام، وهناك مركزية شديدة في نظام التعليم مأخوذة من النظام الفرنسي رغم اعتماد اللامركزية داخل الوزارة. كذلك، يوجد تعليم “مجاني” ذو جودة متدنية، جنباً إلى جنب مع مبادئ نيوليبرالية تدعو لخصخصة التعليم، بالإضافة إلى العديد من التناقضات الأخرى في النظام. ويمكننا فهم ماهية تلك الخصائص وأصلها إذا نظرنا إلى الجهود المتكررة لإصلاح نظام التعليم منذ عهد محمد علي، حيث نجد أن نظام التعليم الحالي في مصر هو نتاج عمليات غير متسقة لنقل السياسات التعليمية. فمنذ ذلك الحين، كانت كل استراتيجية تعليمية جديدة تسعى لإلغاء ما سبقها دون معالجة الخصائص المتأصلة التي تعوق تطور منظومة التعليم وجودته. ولتوضيح كيفية ظهور هذه الخصائص، علينا أن نستعرض بإيجاز المحطات الرئيسية لتاريخ محاولات تطوير النظام التعليمي المصري خلال القرنين الماضيين.

عندما وصل محمد علي إلى السلطة، سعى لإصلاح وتجديد نظام التعليم في مصر من خلال إدخال نظام قائم على النموذج الفرنسي، ولكن هذا النظام أوجد انقساماً حاداً بين نظم التعليم في المدارس الحديثة والمؤسسات التعليمية الدينية التقليدية. ومع حكم الخديوي إسماعيل، حفيد محمد علي، تعمقت الفجوة التي تعوق إتاحة تعليم جيد للجميع، حيث أصبح هناك ثلاثة أنواع من المدارس موجودة جنبًا إلى جنب: المدارس الأجنبية للأجانب والنخبة المصرية، والمدارس الحديثة في المراكز الحضرية، والكتاتيب للأطفال المصريين الفقراء(5). أما في عهد الخديوي عباس الأول، حاول علي مبارك – وزير التعليم آنذاك – أن ينشر التعليم في القرى والمدن الصغيرة. ولكن ما آلت إليه الأمور أن سياساته – عن قصد أو دون قصد – قد عمقت الانقسامات الموجودة في النظام التعليمي. ففي المدن الرئيسية، كان يتم تقديم مناهج حديثة ولغات أجنبية، أما في القرى فقد اقتصر التعليم على تقديم المواد الابتدائية الأساسية فقط. وعندما استعمر البريطانيون مصر في عام 1882، ركزوا جهودهم على مواجهة آثار النفوذ الفرنسي المتأصل في التعليم آنذاك وقمع الحركة الوطنية المصرية الداعمة لإصلاح التعليم في الوقت نفسه. ومن ثم، عملت السلطات البريطانية على تشتيت وإفشال جميع المحاولات المختلفة لنشر وتحسين التعليم في البلاد، وعاد التعليم الجيد حكراً على الأجانب وعلية القوم من المصريين.

في أعقاب الثورة المصرية عام 1952، أعلن جمال عبد الناصر حق كل طفل في التعليم العام المجاني – والذي نص عليه الدستور المصري لعام 1923، ولكنه لم يطبق مطلقاً – باعتباره إحدى سياساته الاشتراكية. ومن ثم، قامت الحكومة بتوحيد نظام المدارس الابتدائية والمناهج الدراسية. ورغم كل المحاولات لإتاحة تعليم جيد، فإن تلك السياسات في واقع الأمر قد أثرت بشكل سلبي على جودة التعليم بسبب ميزانية التعليم المحدودة والتي لم تغط تكلفة الإصلاحات المطلوبة في ظل النفقات العسكرية الهائلة في ذلك الوقت. وبالتالي، انتشر التعليم دون النظر إلى جودته. ومع سياسة الانفتاح التي تبناها أنور السادات، بدأ دور التعليم كمنظم اجتماعي في التقلص، وتزايد دور القطاع الخاص في العملية التعليمية. كذلك، بدأت خلال هذه الفترة المنظمات الدولية، مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والبنك الدولي، أن تدعم الحكومة المصرية مالياً. وبحلول عام 1980، أصبحت مصر واحدة من المستفيدين الرئيسيين من برامج المساعدات التنموية الأمريكية، وأصبح مجتمع المانحين الدوليين يلعب دوراً محورياً في تشكيل السياسات المصرية، بما في ذلك في قطاع التعليم.

سادسا: ملاحظات حول تنفيذ سياسات إصلاح التعليم في مصر

منذ التسعينيات، بدأت مصر في التوقيع على العديد من الاتفاقيات الدولية لتعزيز نتائجها التعليمية مع تبني “أفضل الممارسات” دولياً و”تبادل المعرفة”. منذ ذلك الحين، وبالنظر إلى الجانب الكمي، حدث تقدم في قطاع التعليم (مثل توسيع نطاق التعليم ليشمل المناطق التي يصعب الوصول إليها حيث وصل معدل القيد الصافي للمرحلة الابتدائية إلى 96.9%، وانخفضت نسبة المتسربين من المرحلة الابتدائية بين عامي 2016/2017 و2017/2018 لتصل إلى 0.4%، ووصل معدل الانتقال من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الإعدادية بين عامي 2017/2018 و2018/2019 إلى 99%)(7). ولكن إذا نظرنا إلي جودة التعليم من خلال قياس مخرجات التعلم، نجد أن معدلات التقدم ضعيفة للغاية. فبالنظر إلى نتائج امتحانات TIMSS لعام 2015 (وهو اختبار دولي تشارك فيه أكثر من 60 دولة، ويهدف إلى قياس تحصيل الطلبة في مادتي الرياضيات والعلوم) نجد أن مصر تحتل المركز 49 من بين 50 دولة مشاركة في نتائج قدرات القراءة لطلاب الصف الرابع الابتدائي، والمركز 34 من 39 دولة في نتائج الرياضيات لطلاب الصف الثالث الإعدادي، والمركز 38 من 39 دولة في نتائج العلوم لطلاب الصف الثالث الإعدادي.

إن الإصلاحات التربوية أو التنظيمية للعملية التعليمية – مثل تفعيل التعلم النشط واللامركزية واستخدام التكنولوجيا وغيرها – لم تحقق نجاحاً كبيراً. فبالإضافة إلى الخصائص المتأصلة في نظام التعليم المصري نتيجة للسياسات المتضاربة السالف ذكرها، تلك الإصلاحات يتم تبنيها كما هي دون النظر إلى سياقها المحلي، رغم كونها من أفضل الممارسات بالمعايير الدولية. ومن ثم، تصطدم تلك الإصلاحات عند التنفيذ بالواقع المتهالك لمدخلات التعليم السليمة. فالوضع الحالي يتضمن أساليب تقليدية في التعليم والتعلم، وكثافات عالية في الفصول، وبنية تحتية ضعيفة، وضعف هائل في قدرات المعلمين وغيرها من المدخلات التعليمية التي دون حلها يَصعُب نجاح أي إصلاح. وبناء عليه، كانت – وما زالت – إصلاحات التعليم موضع خلاف كبير من قبل مجموعات المصالح المختلفة، بما في ذلك الإصلاح التعليمي الأخير الذي يعتمد على التكنولوجيا في عملية التعليم والتعلم. فبالرغم من المقومات المحدودة لنجاح مثل هذا الإصلاح (ضعف قدرات المعلمين، والبنية التحتية الضعيفة، وفلسفة التعليم والتعلم في المجتمع المصري … إلخ)، فإن الحكومة استمرت في تبني هذه السياسة، باعتبارها “أفضل” الممارسات الدولية الحالية، مفترضة أن تبني هذا الإصلاح – كأولوية – غير مرتبط بتطوير مدخلات التعليم الأساسية، وعلى رأسها المعلم. فكما يشير تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، “رغم أن إمكانات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في التعليم هائلة، فإن المشكلات والتحديات والقيود التي تواجهها مصر حالياً [في العملية التعليمية] تعني أن التركيز غير المبرر على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والثقة المفرطة فيها والتمويل المفرط لها بهدف الوصول إلى الإصلاحات المرجوة لعملية التعليم والتعلم، ليست مجدية ولا تحل محل الأعمال الأساسية في العملية التعليمية”(8).

سابعا: إعادة النظر في تنفيذ السياسات

بناء على ما سبق، من المهم فهم وإبراز أهمية إصلاح النظام التعليمي بالنظر إلى سياقه المحلي والعالمي معاً، بدلاً من نقل أفضل الممارسات/السياسات منفردة ودون تقييم لجدواها في ظل الوضع الراهن. فالفهم الصحيح للظروف والأولويات المحلية يساعد على بلورة وتوضيح سبب تبني/استعارة السياسات (externalization)، وكيفية تعديلها لتلائم السياق المحلي وآليات تنفيذها (re-contextualization)، ودراسة تأثيرها على الهياكل والسياسات والممارسات القائمة (internalization) (Crossley,2019). ومن ثم، أخذ السياق في الاعتبار – بأشكاله المتعددة ومستوياته المختلفة – هام لتعميق فهمنا لطبيعة وتعقيدات العملية التعليمية لتحسين فرص التنفيذ الناجح للسياسات المتبناة. كما أنه من الضروري اعتماد نهج تصاعدي (bottom-up approach) والاستماع إلى المستفيدين وأصحاب المصلحة المباشرين – مثل المعلمين – في تحسين العملية التعليمية. وبالتالي، فإن البيئة الممكِنة – بما في ذلك العمليات والموارد والآليات الصحيحة – ضرورية لنظام تعليمي تقدمي.

يُشَبِّه د. طارق شوقي وزير التربية والتعليم نظام التعليم الحالي في مصر ببناية متهالكة قاربت على الانهيار، ويصفه بـ “جريمة فعلناها في حقّ أبنائنا”. وتتمثّل مشكلات التعليم الأساسية من وجهة نظره في: الاعتماد على الحفظ والتلقين واعتماد التقييم على اختبارات أساسية مصيرية تجعل الهدف من العمليّة التعليمية اجتياز الاختبار وليس التعلّم. يشرح الوزير أنّ سياسته لن تستهدف إنقاذ البناية القديمة، بل تبني بناية جديدة على أسس مختلفة هي الفهم والتفكير النقدي ومحوريّة الطالب والتطبيق العملي والإعداد للمستقبل المهني واستخدام التكنولوجيا. يتمّ ذلك من خلال وضع مناهج تعليمية جديدة في كلّ المراحل التعليمية بدءاً من رياض الأطفال ويستمرّ سنة بعد سنة. تُعَدّ المناهج الجديدة بالتركيز على المهارات المطلوبة والمرغوبة في نهاية العمليّة التعليمية وفقاً للمعايير الدولية في التقييم وفي التعلّم. وتتضمّن السياسة الجديدة استخدام أدوات حديثة وتفاعلية لتوصيل المعلومات. بدأ بالفعل تعديل المناهج، وحتّى اللحظة، انتهت الوزارة من مناهج بداية المرحلة التعليمية حتّى الصفّ الرابع ابتدائي. وقد أعلن الوزير مؤخّراً أنّه سيتم الإسراع في إعداد المناهج الجديدة كي تظهر آثار الإصلاح بشكل أوضح قريبا.

أمّا عن الطلّاب في البناية القديمة، على الرغم من عدم تعديل المناهج التعليمية في المراحل المدرسية المتقدّمة يتّجه الإصلاح إلى تغيير نظام التقييم عن طريق إدخال تقييم تراكمي من سنة إلى أخرى مع تغيير طريقة وضع الاختبارات مثلما حدث في امتحانات الثانوية العامّة. فهي إذاً محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أي تفادي الصيغ المحفوظة النموذجية التي يتمّ تلقينها في الدروس الخصوصية وتفادي إشكاليّات تسريب الامتحانات وحثّ الطلاب على التعلّم والتفكير المستقلّ، والأهمّ إلغاء مفهوم الاختبار الأوحد الذي يتوقّف عليه مصير الطالب.

بالإضافة إلى المناهج الجديدة وإصلاح منظومة التقييم واستخدام التكنولوجيا، يتضمّن مشروع تطوير التعليم أهدافاً أخرى، منها تعدُّد مصادر المعرفة المتاحة للطالب. تُرجِم ذلك من خلال إنشاء بنك المعرفة المصري الذي يتيح للطلّاب (أو المصريين بشكل أعمّ) الوصول إلى دوريّات علمية وكتب ومصادر مختلفة للمعلومات. كما يشمل تحسين التعلّم في مرحلة الطفولة المبكرة من خلال زيادة عدد الطلّاب الداخلين في التعليم بدءاً من رياض الأطفال وزيادة عدد المدارس. كما يتضمّن المشروع مكوّناً أساسياً هو تدريب المدرّسين والقائمين على التعليم لتنفيذ النظام الجديد وتبنّي فلسفته.

 لا شكّ أنّ وزير التربية والتعليم هو الوجه الأساسي لمشروع تعليم 2.0؛ فهو يتميّز باهتمامه الشديد بالتكنولوجيا بحكم دراسته للهندسة في مصر وفي جامعات أميركية عالمية. وللوزير باع دولي في التدريس وخبرة طويلة في العمل مع منظّمة اليونيسيف في مجال تكنولوجيا التعليم.(9) تساعدنا هذه الخصائص في فهم المنطق الذي يتّبعه في تطوير التعليم، كما توضح أهمّيّة الشراكات مع فاعلين دوليين في تنفيذ المشروع. فبالإضافة إلى دعم البنك الدولي نجد شراكة مع اليونيسيف. كما تمتدّ الشراكات إلى شركات دولية مثل موسوعة Britannica التي تساهم في وضع المناهج الجديدة، وشركة Pearson المتخصّصة في مجال التعليم الإلكتروني وتحديداً الامتحانات.

يصف تقرير البنك الدولي الخاصّ بالقرض الموجَّه لمشروع إصلاح التعليم في مصر أنّ “المشروع يطمح إلى تغيير السياسات والنظم والممارسات ويستهدف التغيير نظام التعليم بالكامل على المستوى المركزي – المحلّي وحتّى على مستوى المدرسة الواحدة، بل الفصل الواحد”. وهذا ما يمثّل نقطة القوة في المشروع، وفي الوقت نفسه أهمّ مخاطره، فهو يحتاج إلى “التزام كبير وغير مسبوق وإرادة سياسية كبيرة ومشاركة من كافّة أصحاب المصلحة“(10)

من حيث الإرادة السياسية، شهد موضوع إصلاح التعليم تحوُّلاً تدريجياً في الخطاب الرئاسي. فلا ينسى أحد المقولة الشهيرة للرئيس عبد الفتاح السيسي “ينفع التعليم في إيه مع وطن ضايع” في 2016 التي، إن وُضِعَت في سياقها، يُفهَم منها أنّ إصلاح التعليم، وإن كان شديد الأهمّيّة، ليس أولويّة على قائمة بنود الإنفاق في الدولة في مقابل القضاء على الفقر والبطالة وتحقيق الاستقرار. وبالتالي، كان ردّ الفعل الرئاسي على فكرة إصلاح التعليم، حينها، هو سؤال منين؟ وبكام؟ أي ما هي مصادر الإنفاق على إصلاح جذري للتعليم؟ تغيّرت هذه النغمة مع بدء المشروع الجديد ورأينا السيسي في 2018 يؤكّد ضرورة الـ “ثقة” و”تحمُّل التكلفة” و”التضحية” لبناء المستقبل والخروج من “الفقر والعوز” ثمّ أعلن عام 2019 “عام التعليم في مصر”، وأخيراً جاء آخر تصريح للرئيس في 2021 إثر نتائج الثانوية العامة ليؤكّد ضرورة التغيير وأنّ “المشكلة إنِّنا قعدنا 50 سنة متغيّرناش، وبقينا كلّنا أسرى للواقع اللي متغيّرش”. يعكس تطوُّر الخطاب الرئاسي إشكاليّات عدّة في مشروع تطوير التعليم، طُرحت في التقارير الفنّية والإعلام وفي النقاش العامّ حول هذا الموضوع.

أولى الإشكاليّات قضيّة التمويل، “منين؟ وبكام؟”. على الرغم من نصّ المادّة 19 من الدستور على تخصيص 4% من ميزانيّة الدولة للإنفاق على التعليم، وبالإضافة إلى دعم المؤسّسات الدولية من خلال قرض البنك الدولي لا يزال سؤال مصادر الإنفاق على إصلاح جذري للتعليم ملحّاً، حتّى إنّ تقرير البنك الدولي يعتبر أنّ أحد مخاطر المشروع هو عدم ضمان استمراريّة التمويل من موارد الدولة. وتؤكّد العديد من المصادر أنّ أكثر بنود الإنفاق إشكاليّة هو رواتب المعلّمين. لا شكّ أنّ الحاجة شديدة إلى إعادة نظر شاملة في منظومة الرواتب، خصوصاً إذا كانت محاربة الدروس الخصوصية هدفاً أساسياً في النظام الجديد، لأنّها تُعتبر مصدر دخل تكميلياً يعتمد عليه الكثيرون. إلّا أنّ قراراً في 2019 بتجميد المرتّب الأساسي للمعلمين عند 2014(11)، ممّا يعني أنّ المرتّب يتناقص بالفعل، إذا ما أخذنا التضخّم في الاعتبار.(12) ورغم صدور قرار في فبراير 2021 بتقديم حوافز أداء للمعلّمين مع ربطها باجتيازهم للتدريب ما زال موضوع الرواتب ملحّاً، إذ يُعتبر المعلّمون الركيزة الأهمّ في إصلاح التعليم في مصر الذي يعتمد عليها النجاح أو الفشل. ولذلك يتوجّه مشروع تعليم 2.0 إلى تدريب المعلمين بشكل سريع ومكثَّف كمكوِّن مركزي في الإصلاح. ويبقى سؤال كيف سيتمكّن المعلّمون من تطوير أنفسهم وتطبيق النظام الجديد في ظلّ عدم كفاية الراتب والعائد من ممارسة المهنة؟

بالإضافة إلى ذلك، جاءت جائحة كورونا بتحدّيات جديدة. فإذا كانت قد أدّت إلى الإسراع بتطبيق بعض أجزاء مشروع إصلاح التعليم وأهمّها استخدام التكنولوجيا الذي أصبح حتمياً إلّا أنّها أكّدت مشكلات أخرى، منها عدم المساواة في الوصول إلى الإنترنت. إذ تختلف التغطية بقدر كبير من موقع إلى آخر ما بين المدن الكبرى والصغرى والقرى، كما ظهرت الحاجة إلى توفير أجهزة وأدوات للطلّاب (مثل التابلت) وتدريب كلّ من المعلّمين والطلّاب على استخدامها. كما أكّد التعليم عن بعد على الحاجة إلى إشراك الطالب في العمليّة التعليمية، إذ إنّه يعتمد بشكل أساسي على التزام الطلاب عن بعد.(13)

من ناحية أخرى، ينصّ تقرير البنك الدولي على أهمّيّة مشاركة المواطنين (Citizen engagement) لضمان تنفيذ مشروع الإصلاح بنجاح، كما يؤكّد أهمّيّة التواصل وتوفير المعلومات ومتابعة ردود الأفعال على التغيُّرات في السياسات. وهنا تظهر نقطة إشكاليّة أخرى في النقاش العامّ وهي وجود ما يتمّ تصويره على أنّه مقاومة للإصلاحات من أهالي وعائلات الطلّاب. فمن ناحية، نجد بالفعل خطوات لتحسين التواصل منها: إتاحة مصادر على موقع وزارة التربية والتعليم والتصريحات المتكرّرة من الوزير ومداخلاته في البرامج الحوارية. كما ظهرت مبادرات مجتمعية ركّزت على متابعة وتوثيق المشروع مثل مبادرة بحث وتوثيق مشروع تعليم 2.0 التي أُطلقت في وحدة البحث المجتمعي في الجامعة الأميركية في 2018. وعلى الرغم من التأكيد على أنّ الإصلاح لن ينجح إلا بتعاون الجميع وعلى أنّه يضمّ الجميع، يظلّ الحوار المجتمعي الأكثر شمولاً غائباً، وتظلّ هموم الأهالي تقابَل بقدر من اللوم في خطابات الوزير والرئيس بسبب عدم قبول التغيير والـ “مبالغة” في الضغط على الأبناء لاجتياز الامتحانات بنجاح وتحمّلهم مسؤوليّة استمراريّة النظام القديم مع مطالبتهم بالـ “ثقة” و”تحمّل تكلفة” التغيير. تقودنا هذه النقطة إلى طرح بعض التساؤلات الأساسية عن أسس فلسفة التعليم في مصر.

 ثامنا: ملاحظات حول فلسفة التعليم الجديدة

أشار باحثو مؤسّسة كارنيغي في أحد التقارير التي تتناول التعليم في المنطقة العربية على أنّ مشروعات إصلاح التعليم في دول عديدة ركّزت حتّى الآن على الزيادة العددية للتلاميذ والمدارس والإصلاحات الجزئية في المناهج على حساب الإصلاحات الكيفية الجذرية وعلى إعادة النظر في فلسفة التعليم لتكوين بيئة تشجّع على التفكير النقدي والمستقلّ. لا شكّ أنّ مشروع تعليم 2.0 كما يتمّ تقديمه يتخطّى المستوى الكمّي والإصلاح الجزئي ويطمح إلى تغيير حقيقي في توجّه التعليم في مصر، يترجَم بشكل مباشر في المناهج الجديدة التي يتمّ إعدادها والشروع في تطبيقها. لكن، على الرغم من ذلك ثمّة أسئلة أساسية عدّة تتعلّق بفلسفة المشروع وخطوات تنفيذه وبشكل أعمّ التعليم في مصر.

تؤكّد ورقة بحثية، صادرة عن جامعة هارفارد، أنّ إصلاح التعليم في مصر يتبع حتّى الآن مدخلاً من “أعلى إلى أسفل (Top-down)”(14). يظهر ذلك فيما تم عرضه سابقاً من استبعاد عائلات الطلّاب وتصويرهم كمقاومين للإصلاح، لكنّه يمتدّ أيضاً إلى استبعاد منظّمات المجتمع المدني. فالعديد من المبادرات المهتمّة بالتعليم والتعليم البديل تعمل باستقلال منذ زمن ولم يتمّ إدماج خبرتها في مشروع الإصلاح ولا في الحوار حوله. يظهر في أحد تقارير مدى مصر تصوُّر لدى البعض عن نظام تعليمي ليس تشاركياً فحسب، بل غير مركزي، أي يتمّ تطبيقه بشكل مختلف يتناسب مع البيئة والسياق الذي يختلف من موقع إلى آخر في مصر. ومنهم من يحلم بتعليم غير تقليدي، أي ليس بالضرورة في مبنى مدرسة أو فصول مغلقة، بل لا مانع من تصوّر تعليم يتمّ في أماكن مفتوحة أو فصول في الهواء الطلق.(15) وإذا لم تذهب مخيّلة الدولة إلى هذا الحدّ، فمخيّلة المجتمع والمجتمع المدني أوسع وبالتالي، إنّ مدخل الـ top-down يُفقِد مشروع إصلاح التعليم فُرَصاً عديدة للمشاركة الحقيقية وضمان الاستمراريّة(16)، حتّى إنّه يحدّ من طموحات التغيير.

من ناحية أخرى، طالما كانت قضايا التعليم في مصر مُحاطة بالجدل والاختلاف في وجهات النظر، بخاصّة فيما يتعلّق بهدف التعليم وسؤال مَن يحقّ له التعلُّم؟  فكانت رؤيتان في العقود الأولى من القرن العشرين: الأولى أنّ التعليم يهدف إلى خلق نخبة وطنية تقود المجتمع، وبالتالي فهو يتاح فقط للقادرين عليه ممّن سيشكّلون هذه النخبة. والثانية أنّه يهدف إلى تحقيق التحرّر الوطني الفعلي، فالتعليم لا بدّ أن يتاح للجميع مجّاناً “كالماء والهواء” مثلما عبّر عنه طه حسين.(17) وإذا كانت الرؤية الثانية هي التي انتصرت مع المجّانيّة الشاملة للتعليم في كافّة مراحله بدءاً من عام 1950 ثمّ مع ثورة يوليو 1952 إلّا أنّ الفوارق الطبقية الاجتماعية والاقتصادية بين فئات المجتمع أصبحت (أو ظلّت) تفرّق بين تعليم النخبة وتعليم العامّة بشكل متزايد تدريجياً. تترجَم هذه الفوارق اليوم في الاختلاف الكبير بين التعليم الخاصّ والتعليم الحكومي، وفي التعليم الخاصّ بأنواعه المختلفة تتميّز فئة المدارس الدولية عن غيرها بارتفاع مصاريف التسجيل وفي المقابل تقدّم شهادات دولية عالية الجودة. من ناحية أخرى جاء التوجّه إلى اقتصاد السوق منذ نهاية سبعينيّات القرن العشرين مع سياسة الانفتاح، ثمّ بشكل أوضح مع تبنّي النيوليبرالية في بداية التسعينيّات بتصوُّرات جديدة عن دور التعليم لإعداد القوّة العاملة ومواطن منتج قادر على المنافسة في سوق يحكمها القطاع الخاصّ.(18) أمّا عن التعليم العالي، فقد رسّخت سياسات ثورة يوليو 1952 فكرة أنّه بمثابة وسيلة للصعود الاجتماعي. وعلى الرغم من أنّ ارتفاع معدّلات البطالة وعدم قدرة جهاز الدولة حتّى وقتها على استيعاب أعداد الخرّيجين، بالإضافة إلى التحوّل إلى اقتصاد السوق قد شكّلت عوائق فعلية لهذه المسارات الصاعدة المأمولة، ظلّت الفكرة ثابتة عند الأغلبيّة، ممّا يشرح لنا لماذا تثير امتحانات الثانوية العامّة هذا القدر من القلق والجدل والإشكال عند المواطنين.

يأتي مشروع إصلاح التعليم الحالي بخليط من الأفكار والرؤى والأدوات. فمن ناحية، “البناية الجديدة” أي المناهج الجديدة تُطبَّق على الجميع، أو على الأقلّ مَن يتبع النظام المصري (سواء مدارس حكومية أو خاصّة، ولكن ليس المدارس الدولية). فهي إذاً تستهدف النهوض بالتعليم الوطني. لكن من ناحية أخرى، لا شكّ أنّ اختلاف الإمكانيّات بين المدارس الخاصّة والمدارس الحكومية سيولّد فوارق في جودة التطبيق، تحديداً مع اعتماد المشروع على الأجهزة الإلكترونية وعلى تدريب المعلّمين، وأيضاً مع كون التمويل قضيّة إشكالية. لكن لا ننكر أنّ على المستوى الخطابي على الأقلّ، يبدو أنّ الهدف هو النهوض بالتعليم الحكومي وسيُظهِر الوقت ما إذا كانت إدارة المشروع ستنجح في تقليل الفوارق الموجودة حالياً.

أمّا عن الهدف من التعليم فتمتزج ثلاث توجّهات في الخطاب الوزاري والرئاسي، أوّلها وأبرزها هو التعليم من أجل سوق العمل، ثانيها الإصرار، خصوصاً من الوزير، على أهمّيّة التفكير المستقلّ، وأخيراً إصرار الرئيس على فكرة أنّ التعليم ليس للمعرفة فقط لكن “السلوكيّات والقيم” و “صنع الإنسان”. ينقلنا البعدان الثاني والثالث إلى السؤال الأخير: ما شكل الإنسان أو المواطن الذي يسعى النظام الحالي إلى صنعه؟

 لا يمكن عزل التعليم عن السياق الفكري والسياسي في المجتمع. فنظام التعليم الحالي في مصر ليس “غير محفِّز لخلق مواطن فعّال يشارك في حياة سياسية ديموقراطية”(19) فحسب، بل كان دائماً يوظَّف لتثبيت نظم الحكم وصناعة شرعيّة النظام القائم.(20) ولذلك، حتّى وإن أصرّ وزير التعليم، على أهمّيّة التفكير المستقلّ والتفكير النقدي، لا تزال جدّيّة هذه الأهداف محلّ شكّ لأسباب عدّة، منها التركيز على الأجزاء الفنّية والمهارات العملية – استبعاد المجتمع من خلال مدخل الـ top-down ، وأخيراً، استمرار بل تصاعد التضييق على الحرّيّات، على الأخص حرّيّة التعبير وغلق المساحات الفنّية والثقافية والتحكّم فيها من خلال أدوات متعدّدة.

وهكذا، إذا كان مشروع إصلاح التعليم في مصر هو مشروع طَموح وواعد، يسعى إلى تنفيذ تغيير جذري في فلسفة التعليم في مصر، فإنّ البعد السياسي بخاصّة تصوُّر الدور المجتمعي للتعليم في صنع المواطن قد يشكّل عائقاً في طريق التحوُّل الحقيقي ويحدّ من أثره.

خاتمة

بعد هذا الاستعراض لملامح المشروع القومي لإصلاح التعليم، وما يؤخذ عليه من ملاحظات تتعلق بالأبعاد الاجتماعية والثقافية، والتي تتلخص في تجاهل السياق الاجتماعي والثقافي المحلي الذي يتم فيه تنفيذ المشروع، ومن ثم التجاهل التام للمخرجات الاجتماعية والثقافية، على نحو يدعونا إلى التأكيد على أن الدولة، ممثلة في وزارة التربية والتعليم، تسعى من المشروع إلى حل مشكلاتها هي، وتتجاهل المشكلات الاجتماعية والثقافية.

فقد تبنى المشروع منظور التطبيق الفوقي متجاهلا بشكل تام عقد حوار مجتمعي، وإشراك الفئات المعنية، وتجاهل مدخلات العملية التعليمية بتركيبتها الاجتماعية والثقافية، على النحو الذي، رغم وجاهة المشروع من الناحية النظرية، قد يدعونا إلى فرض احتمالية الخروج بنتائج عكسية تؤدى إلى ضعف جودة المخرجات الاجتماعية والثقافية للتعليم.

فقد خلى المشروع من النظر إلى التقدير المجتمعي للمعلم، أو تغيير الصورة النمطية عن المعلمين، أو حتى الارتقاء بمستوى المعيشة وتحسين نوعية الحياة لدى المعلمين على نحو يحفظ كرامتهم، ويحفزهم نحو رفض اللجوء للدروس الخصوصية.

كما أكد المشروع على تغيير أسلوب الامتحانات، وتجاهل أن هذا الأسلوب “البابل شيت” هو مجرد أداة ضمن سلسلة أدوات للتقييم الشامل والمستمر من الصعب تطبيقه في ظل زيادة معدلات تكدس الفصول، ونقص عدد المعلمين. فضلا عن أن هذا الأسلوب يضعف من جودة واكتساب الطالب لمهارات أخرى مثل مهارة الكتابة وعرض الأفكار والتعبير عن الرأي.

أيضا تجاهل المشروع التعامل مع تعدد نظم التعليم على تشكل خطرا كبيرا على التماسك المجتمعي والهوية الوطنية.

وفوق كل ذلك فقد تجاهل المشروع التعامل مع مواجهة الفوارق الاجتماعية والطبقية التي تنتج عن تعدد نظم التعليم.

المراجع

(*) تولى الخديوي إسماعيل الحكم في 18 يناير 1863، وكان قد زامل علي مبارك في بعثة الأنجال، فاستدعاه فور جلوسه على عرش البلاد، وألحقه بحاشيته، وعهد إليه قيادة مشروعه المعماري العمراني، بإعادة تنظيم القاهرة على نمط حديث: بشق الشوارع الواسعة، وإنشاء الميادين، وإقامة المباني والعمائر العثمانية الجديدة، وإمداد القاهرة بالمياه وإضاءتها بالغاز، ولا يزال هذا التخطيط باقيًا حتى الآن في وسط القاهرة، شاهدا على براعة علي مبارك وحسن تخطيطه. أسند إليه إلى جانب ذلك نظارة القناطر الخيرية ليحل مشكلاتها، فنجح في ذلك وتدفقت المياه إلى فرع النيل الشرقي لتحيي أرضه وزراعته، فكافأه الخديوي ومنحه 300 فدان، ثم عهد الخديوي إليه بتمثيل مصر في النزاع الذي اشتعل بين الحكومة المصرية وشركة قناة السويس فنجح في فض النزاع؛ الأمر الذي استحق عليه أن يُكّرم من العاهلين: المصري والفرنسي فعهد اليه بنظارة المدارس، مع بقائه ناظرًا على القناطر الخيرية وفي أثناء ذلك أصدر لائحة لإصلاح التعليم عُرفت بلائحة رجب سنة 1868، ثم ضم إليه الخديوي ديوان الأشغال العمومية، وإدارة السكك الحديدية ونظارة عموم الأوقاف والإشراف على الاحتفال بافتتاح قناة السويس. ومع ظهور الوزارات كمؤسسات في حكم البلاد سنة 1878، تولى علي مبارك ثلاث وزارات: اثنتين منها بالأصالة، هما الأوقاف والمعارف، والثالثة هي الأشغال العمومية.

(**) تعتبر لائحة رجب من أهم الإنجازات التربوية لعلي مبارك إذ وضعت هذه اللائحة كيانا قوميا للتعليم أساسه تعليم شعبي متطور تشرف عليه الحكومة وتوليه عنايتها. وتنقسم لائحة رجب إلى ثلاث أقسام: يتناول القسم الأول منها تطوير المكاتب في المدن من حيث إدارة المباني والتجهيزات والرعاية الصحية. والقسم الثاني: يتناول تنظيم المكاتب في القرى. والقسم الثالث: يتناول المدارس المركزية في مراكز المديريات. وأهم المبادئ التي قامت عليها لائحة رجب هي:

– تطوير الكتاتيب مع الاحتفاظ بروحها الأصيلة التي تتميز بالبساطة في الأثاث والاهتمام بتعليم القرآن الكريم.

– الاحتفاظ للكتاتيب بطابعها الشعبي وعدم تدخل الحكومة في شئونها وترك مسئوليتها على الأهالي.

– وصل الكتاتيب بالتعليم الأميري أو الرسمي الذي يوصل إلى المراحل الأعلى من التعليم.

– تنظيم الإشراف والتفتيش على المدارس والمكاتب.

– تنظيم الامتحانات وجعل منها مهرجانات آخر العام تعزف فيها الموسيقى وتوزع الجوائز على المتفوقين.

– اشترطت اللائحة شروطا في المعلم منها حسن الأخلاق والصفات وأهليته لتعليم القرآن والمعرفة بأمور الدين ويحسن باب العدية في الحساب. وجعلت تعيينهم بمعرفة ديوان المدارس.

-Beech, J. (2006). Redefining educational transfer: International agencies and the (re)production of educational ideas. In J. Sprogøe & T. Winther-Jensen (Eds.), Identity, Education and Citizenship — Multiple interrelations (pp. 175–196). Frankfurt, Germany: Peter Lang.

-Phillips, D. (2009). Aspects of Educational Transfer. In Cowen R., Kazamias A.M. (eds) International Handbook of Comparative Education (Springer International Handbooks of Education, vol. 22). Dordrecht, Netherlands: Springer Netherlands.

-Ibrahim, A. S. (2010). The politics of educational transfer and policymaking in Egypt. Prospects, 40(4), 499–515.

-Phillips, D., & Ochs, K. (2004). Researching policy borrowing: some methodological challenges in comparative education. British Educational Research Journal, 30(6), 773-784. doi:10.1080/0141192042000279495b

(7) وزارة التربية والتعليم، الكتاب الإحصائي السنوي، 2019.

(9) يشرح الوزير مساره في خطاب على موقع  Tedx Cairo، Learning for Life : Tarek Shawki، 1 أكتوبر 2015.

(10) تقرير البنك الدولي حول قرض لدعم تطير التعليم في مصر، مارس 2018.

(11) عمرو علاء الدين، القصّة الكاملة لتجميد مرتّبات المعلّمين، أخبار اليوم، 3 فبراير 2019.

(12) محمّد أشرف أبو عميرة، عربات ناقصة في قطار تطوير التعليم، مدى مصر، 1 أغسطس 2019.

(13) ندى عرفات، هل انطلق التعليم الإلكتروني قبل الأوان؟، مدى مصر، 20 مايو 2020.

  • Education 2.0: A Vision for Educational Transformation in Egypt, Nariman Mostafa, Ebtehal el Ghamrawy, Claire Hao, Katherine King, Poster, Student Research Symposium, Harvard University, Education 2.0 Research and Documentation Project.

(15) محمّد أشرف أبو عميرة، عربات ناقصة في قطار تطوير التعليم، مدى مصر، 1 أغسطس 2019.

I am text block. Click edit button to change this text. Lorem ipsum dolor sit amet, consectetur adipiscing elit. Ut elit tellus, luctus nec ullamcorper mattis, pulvinar dapibus leo.